تخيل طفل لا يرى، لا يسمع، ولا يتكلم… كيف يمكن تعليمه أو حتى التواصل معه؟
ده كان التحدي المستحيل اللي واجهته المعلمة الأمريكية آن سوليفان، واللي قدرت تحوله لأعظم قصة إلهام في التاريخ!
فى هذا المقال بنعيش مع قصة هيلين كيلر، الطفلة العمياء الصماء التي أصبحت عالمة وأديبة ومحاضِرة عالمية.
هنتعرف على تفاصيل حياتها من الطفولة المظلمة، لحد لحظة الفهم الأولى عند مضخة الماء، والرحلة اللي حولت المستحيل لواقع.
قصة مش بس عن التعليم، لكنها عن الإرادة، الإيمان، والعبقرية اللي بتتحدى قوانين الطبيعة.
👂 تحدي الصمت والظلام: معضلة الطفل المجهول
أنا عايزك يا صديقى تتخيل انى جبتلك طفل صغير عنده أقل من 7 سنين. الطفل ده نقدر نقول انه اتولد لا بيشوف ولا بيسمع ولا طبعاً بيتكلم. معروف إن أى حد اتولد أصم أو مش بيسمع، لازم برضه يكون أبكم يعنى مش بيتكلم. أى أصم تلاقيه بيتكلم تعرف إنه فقد السمع على كبر بعد ما اتعلم الكلام.
فالمهم الطفل اللى جبتهولك ده عنده أقل من سبع سنين، ومن أول ما وصل سن الإدراك النسبى وهو مش عارف أى حاجة. مجرد عايش فى عالم أسود وصامت أكتر من صمت القبور. وطبعاً معندوش أى تفسير للى هو فيه، لان ببساطة محدش علمه أى حاجة.
السؤال بقى دلوقتى: هل تقدر تعلم الطفل ده أى حاجة عشان يفهم الدنيا؟ المفترض إنك تقولى طب عرفنى بس أتواصل معاه إزاى وأنا أحاول أعلمه! ما أنت بتقول لا بيشوف ولا بيسمع ولا بيتكلم!
وبما إن الموضوع انهاردة طويل جداً، فخلينى أختصر وأقولك ع المفيد! الموقف ده يا صديقى بالظبط حصل مع أستاذ عبقرى وقدر إنه ينجح فيه. والأستاذ ده مش بس علم الطفل وخلاه يتجاوب ويتواصل مع العالم، لا ده كمان خلاه يتجاوز العبقرية نفسها ويبقى معجزة ما حصلتش قبل كده. وغالباً برضه مش هتحصل بعد كده. ولذلك فـالأستاذ ده نفسه هو كمان معجزة مش هتتكرر.
عشان كده احنا عندنا انهاردة مقال خاص جداً من سلسلة العباقرة. مقال هنتكلم فيها عن معجزتين وعبقريتين ما لهمش أى مثيل فى التاريخ الإنسانى. المعجزة اللى هتلعب دور الأستاذ هى الأمريكية إيرلندية الأصل آن سوليفان، والمعجزة اللى هتلعب دور الطالبة هى الأمريكية ألمانية الأصل هيلين كيلر.
🌟 معجزة المعجزات: هيلين كيلر (العبقرية المزدوجة)
أنا عايزك يا صديقى تركز كويس المقال دى وما تخليش أى مفاجأة تشتت تركيزك، لإنه اعمل حسابك إن المفاجآت هتبقى متتالية ومينفعش تقف عندها. أى مفاجأة هتسرح فيها وتفضل تفكر حصلت إزاى؟ هتضيع على نفسك المفاجأة اللى بعدها. فخليك بس ماشى معايا وهتلاقى التفسير اللى انت عايزه فى الآخر.
انهاردة صحيح إن عبقريتنا وبطلة المقال الرئيسية هيلين كيلر عالمة فى الآداب مش فى العلوم، لكن على مدار 60 سنة كان بيرجع ليها ويستشيرها كل العلماء ورؤساء أمريكا والعالم. وزى ما غيرت نظريات زى النسبية والكم التصورات عن الكون اللى بيعيش فيه البشر، فـهيلين كيلر غيّرت التصورات عن فهم البشر نفسهم.
فـهيلين ما كانتش عبقرية عادية ولا حتى معجزة، هيلين كانت فعلاً عبقرية العبقريات ومعجزة المعجزات! هى ومعلمتها آن سوليفان.. الاتنين بيمثلوا مع بعض الحد النهائى للعبقرية والقدرات البشرية. وفعلاً قدمولنا أول نموذج فى التاريخ لإنسان بيعانى من إعاقة حواس مزدوجة لكنه قدر إنه يحصل على شهادة جامعية. وطبعاً ده مجرد واحد من الإنجازات أو الإعجازات اللى لسه هنتكلم عنها.
لكن لو كان إنجاز الجامعة ده مش واصلك كويس، فخلينى أقولك إنه لحد إنهاردة التعليم الجامعى فى أمريكا سواء للنساء او الرجال بيعتبر النسبة الأقل من الشعب أو حتى تقدر تقول النسبة النادرة. فبحسب بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي لسنة 2024 حوالي 38% بس من الشعب همه اللى قدروا يحصلوا على شهادة جامعية. فتخيل بقى النسبة دى كانت كام أواخر القرن 19؟ فسنة 1900 اللى هى سنة التحاق هيلين بالجامعة، التعليم الجامعى كان نادر جدا للرجال ومعدوم تقريباً للنساء. ده كمان الكلام ده خاص بالأصحاء مش متحدى الإعاقة زى هيلين.
والمذهل بقى إن الجامعة اللى التحقت بيها هيلين كانت هى جامعة هارفارد، أحسن جامعة فى العالم وقتها ويمكن لحد إنهاردة. هارفارد جامعة من الأصل مش سهل تدخلها حتى لو نجحت بتفوق فى الثانوى. ولذلك كان مجرد السماح لهيلين بأداء امتحان قياس القدرات للترشح للكلية مرفوض. فلما راسلتهم هيلين أول مرة وحكت عن ظروفها، اعتبروا ان الرسالة دى المكتوبة بالآلة الكاتبة وموقعة بخط اليد مجرد نوع من أنواع المزاح البايخ، لأنه فعلاً يعنى إيه واحدة بتقول على نفسها عمياء صماء بكماء بس عايزة تدرس فى هارفارد!
لكن برضه طبيعى إن واحدة بقدرات هيلين الاستثنائية ما تستسلمش من اول مرة. ولذلك هيلين استمرت فى إرسال طلب الامتحان وأصرت وألحت وما استسلمتش. وأكدت إن إعاقتها مش هتمنعها ولا هتؤثر على استيعابها. وبالفعل تم السماح ليها بآداء امتحان قياس القدرات سنة 1900 ميلادية. ومش هقول ان هيلين بس تجاوزت الامتحان ده بكل سهولة، لأ دى خلصت الأربع سنين كلية واتخرجت بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف.
بل إن هيلين واصلت الإبداع واتحولت لمرحلة الاحتراف فى اللغة وعلومها. فهيلين أصدرت أول كتبها وهى لسه طالبة فى الجامعة. وأنا عايزك تجمد بقى عشان أقولك إن الإبداع ده ما كانش بس بلغتها الإنجليزية. هيلين اتعلمت أربع لغات بجانب الإنجليزى همه الفرنسية والألمانية واللاتينية واليونانية القديمة. والكلام ده مهدلها الطريق إنها تحصل على عدد من درجات الدكتوراه الفخرية. ولذلك كانت هيلين بتحاضر وتعقد مؤتمرات فى 35 جامعة على مستوى العالم. …. خصوصاً بعد ما اتعلمت الكلام!
وخلينى أكرر الجملة مرة تانية واقول خصوصاً بعد ما اتعلمت الكلام! فـهيلين كيلر فعلاً قدرت تهزم المستحيل واتعلمت تتكلم. طبعاً هنفهم كل حاجة بالتفصيل قدام شوية. لكن مؤقتاً هقولك إن كل الإنجازات دى بترجع لعامل واحد وهو حاسة اللمس.
فـهيلين عن طريق مساعدة معلمتها آن سوليفان، قدرت تستخدم حاسة اللمس كبديل عن حواس السمع والبصر. وعن طريق حاسة اللمس اتعلمت كل شيئ متوقع زى مثلاً طريقة برايل، أو حتى اتعلمت بعض المهارات زى الخياطة والسباحة والطبخ. لكن عن طريق نفس الحاسة برضه قدرت تتعلم كل شيئ غير متوقع، فـهيلين اتعلمت الكتابة الطبيعية بالقلم والآلة الكاتبة، بل قدرت حتى انها تستمتع بالموسيقى! وكان ليها ومعلمتها الفضل فى ابتكار أجهزة تكنولوجية حالياً موجودة بتستخدم نفس تقنياتهم، عبارة عن أجهزة بترتبط بجسم المصاب وبتحوله الأصوات لاهتزازات بيقدر يفهمها. يعنى بصفة عامة قصة هيلين كيلر مش مجرد قصة عادية من قصص العبقريات فى سلسلتنا، قصة هيلين هى قصة عن فهم حدود وقدرات العقل البشري والروح والإرادة. خلونا بقى ندخل فى الملحمة من البداية عشان نفهم هيلين وصلت للمهارات دى كلها إزاى.
👶 الطفولة والصدمة: عالم الضلمة والسكون
في يوم 27 يونيو سنة 1880، اتولدت هيلين آدامز كيلر زيها زى أى طفلة طبيعية. ما كانش عندها أى مشاكل فى أجهزة السمع والبصر. لكن بسبب مرض ما تعرفوش عليه وقتها .. وإن كان مرشح إنه يكون الحمى القرمزية أو إلتهاب السحايا، فقدت هيلين السمع والبصر لما كانت رضيعة في عمر 19 شهر.
وخلى بالك فقدان السمع والبصر فى العمر ده أو حتى لحد 3 سنين، بيبقى نفس فكرة الولادة مع فقدان السمع والبصر مفيش فرق بينهم. فالطفل مش بيخزن أى ذكريات غير لما يتم 3 أو 4 سنين، وحتى ده بيعتبر نادر جدا، فأغلب الأطفال بيبدأوا تخزين الذكريات من سن 5 أو 6 سنين اللى هو سن المدرسة. وده بسبب ان الدماغ البشرى ومراكز الذاكرة فى الـ 3 سنين الأولى بيكونوا لسه فى مرحلة النمو. لو حابب تقرأ أكتر عن الموضوع ممكن تقرأ عن جزء من الدماغ اسمه العلمى hippocampus، او برضه ممكن تكتب فى جوجل فُقدان الذاكرة الطفولي أو Childhood Amnesia. لكن الخلاصة ان مفيش فرق بين المولود بالإعاقة أو اللى حصلتله قبل ما يوصل 3 سنين على الأقل. ولو حد قالك إنه فاكر أى حاجة من عمر سنتين متصدقش، لأن دى حالة بيسميها الأطباء ذِكرى مستعارة من الصور والكلام، يعنى بتكون حاجة اتكونت فى الذاكرة من حكاوى الأم مثلا.
وعموماً عشان ما نبعدش عن موضوعنا، هيلين لما وصلت سن الإدراك والذاكرة بتاع المدرسة، ما كانش عندها أى معلومة عن الوضع اللى هى فيه. فهى لما وصلت للإدراك لقت نفسها موجودة فى الضلمة والسكون الرهيب، لا عارفه هى مين ولا هى إيه ولا مين اللى جابها هنا. وعشان كده كان كل اللى بتعمله هو العصبية والزن والعياط. لو اتعصبت وخبطت ورفست يبقى عطشانة او جعانة أو متضايقه من حاجة. هو ده التفاعل الوحيد بينها وبين العالم اللى همه أهلها والمربية بتاعتها.
المربية كانت دايماً جاهزة جنبها عشان الأكل والشرب وتغيير الهدوم وهكذا. فهيلين كانت مدللة جداً وبتعمل اللى هى عايزاه ومفيش اى نوع من العقاب او التوجيه. مفيش حد بيعنفها أو بيعترض على أى حاجة بتعملها. تصرخ تزعق تكسر توقع حاجة … مفيش رد فعل. لأنه غير التعاطف مع حالتها واللى هى فيه، فمحدش كان عارف التوجيه ده يتعمل إزاى أصلاً!
والمشكلة إن هيلين كانت بتكبر وكل يوم عصبيتها بتكبر معاها. والأهل ما كانوش عارفين يتصرفوا معاها ازاى بعد ما أكد الأطباء ان مفيش علاج لحالتها. ده غير انهم ما كانوش قادرين يبعتوها لدور رعاية مثلاً أو مؤسسة، فاولاً كانوا خايفين محدش هيستحملها، وثانياً كان السؤال أنهى دار يبعتوها ليه؟ دار المكفوفين ولا دار الصم والبكم، الحالة فعلاً كانت معقدة وبتتأخر كل يوم مع تقدم سن هيلين. ده غير إن الأخت التانية Mildred Keller كانت وصلت وبدأ الأهل يهتموا بيها.
لكن فى محاولة أخيرة يائسة فكر والد هيلين انه ياخد رأى صهره وصديقه Alexander Graham Bell. خصوصاً إن Graham Bell كان وقتها ملئ السمع والبصر بسبب اختراعه للتليفون. وباختصار أشار Bell على الأب انه يجيب مدرس خاص لهيلين من معهد مكفوفين محقق سمعة كويسة. كان يقصد معهد للمكفوفين موجود فى بوسطن واسمه معهد بيركنز.
الخلاصة المعهد فعلاً رشح معلمة مقيمة مستعدة لمرافقة هيلين. المعلمة دى كانت خريجة حديثة سنها 20 سنة، لكنها كانت متميزة جدا والكل بيشكر فيها. طبعاً بتكلم عن المعجزة التانية آن سوليفان. واللى هتروح لبيت هيلين أول مرة أواخر سنة 1886. وكان وصولها الأول ده ممكن تسميه وصول أو مرحلة وضع النقط على الحروف.
🦸♀️ صانعة المعجزات (آن سوليفان): ترويض العبقرية
عنوان صانعة المعجزات اللى انت شفته ده مش من عندى، العنوان ده عبارة عن لقب آن سوليفان اللى هتشتهر بيه فيما بعد. وكان متاخد من واحد من الأفلام الكتير اللى اتعملت عن قصة الثنائى المعجزة، الفيلم ده اسمه The Miracle Worker أو بالعربى صانعة المعجزات، وكان تقريباً أهم الأفلام اللى اتعملت عن القصة لأنه فاز بجايزتين من جوائز الأوسكار.
المهم بقى أو المفاجأة ان سوليفان صانعة المعجزات هى نفسها من أصحاب الهمم! فزى ما بنقول كده ما كانتش بتشوف غير طشاش. هى أصلاً ما كانتش بتشوف نهائى خلال دراستها فى معهد بيركنز. لكن بعد ما أجرت عملية ناجحة رجع ليها نسبة ضعيفة من الإبصار. و فى الأغلب برضه كانت بتمشى بمساعد معاها. وللأسف هترجع لحالة الفقدان التام للنظر فى السنين الأخيرة من عمرها.
أنا بقولك الكلام ده عشان تقدر تستشعر برضه العبقرية اللى عند سوليفان. واللى ظهرت من استعدادها فى المرة الأولى اللى زارت فيها بيت هيلين. فالواضح ان سوليفان كانت محضرة الخطة. ولذلك لما اتقابلت مع هيلين أول مرة وشافت بنت صغيرة مدللة وبتعمل اللى هى عايزاه، عرضت على الأسرة طلباتها وسابتهم يفكروا وينادوها بعد القرار. قالتلهم انها عايزة مكان منفصل عن البيت تكون فيه هى وهيلين لوحدهم. وقالتلهم ممنوع التدخل مهما حسيتوا منى بقسوة أو لقيتوا هيلين بتصرخ.
سوليفان قالت الكلمتين دول و أنهت الزيارة الأولى. وعشان نختصر خلينا نقول ان الأهل استسلموا بعد 4 شهور لشروط سوليفان، عشان تسجل سوليفان الوصول التانى لبيت هيلين فى ولاية الاباما. وكانت الأسرة مجهزة لسوليفان وهيلين كوخ صغير فى الجنينة بتاعة البيت. الكوخ اللى هتبدأ فيه رحلة المستحيل للثنائى المعجزة.
الرحلة اللى هتبدأ أولاً بـتعليم هيلين قواعد السلوك. وكانت طريقة سوليفان إنها تحط هيلين قدام الأمر الواقع. فهمتها ان الدنيا مش سهلة حتى لو ظروفها صعبة. الطريقة اللى كانت عايشة بيها انتهت خلاص. والناس اللى كانت عايشة معاهم خلاص ما بقوش موجودين. ومفيش قدامك يا هيلين غير طريقة جديدة وناس جداد، أو تحديداً شخصية واحدة بس هى سوليفان. فسوليفان كانت بتدى لهيلين الأكل والشرب والحلوى والشيكولاته فى مواعيد هى محدداها. يعنى ما كانتش بتهتم مهما هيلين رفست أو اتعصبت. كانت قاصدة تعلمها إن مش دى الطريقة اللى الناس بتتواصل بيها. وطبعاً كانت فترة صعبة لكنها فعلاً بدأت تجيب نتيجة.
ولذلك فالوصول التانى ده لسوليفان اللى كان فى شهر مارس سنة 1887 هيستمر لحد وفاة سوليفان في أكتوبر سنة 1936. حوالى 50 سنة هتعيشها سوليفان مع هيلين ومش هتسيبها أبداً مرة تانية. عشان الاتنين يقدمولنا واحدة من أروع الملاحم الإنسانية على مر التاريخ. فحتى بعد ما سوليفان هتتجوز من جون ماسى هتاخد هيلين تعيش معاها. وخلال السنين دى كلها كانت سوليفان مش بتتحرك إلا وهيلين معاها. فى المطبخ فى الشارع فى الجامعة فى أى مكان دايماً معاها.
فـ آن سوليفان زى ما هتقول هيلين عنها بعد كده: “سوليفان لم تكن مجرد معلّمة .. لقد كانت الأم الروحية والجسر الأول بينى وبين العالم“. والحقيقة إن واحدة بس من حسنات سوليفان مع هيلين انها عرفتها بـبولى! مارى أجنو س طومسون الشهيرة بـبولى تومسون (Polly Thomson = Mary Agnes Thomson). وبولى دى تلميذة آن سوليفان وكانت برضه بتساعدها على المشى والحركة. وفى السنين الأخيرة لما بدأ التعب يزيد على سوليفان، بدأت بولى هى كمان تعيش معاهم وتشيل العبئ شوية عن سوليفان. ولولا بولى ما كانش حد يعرف إيه النكسة اللى ممكن تحصل لهيلين يوم وفاة سوليفان. ولذلك بولى تومسون برضه كانت من أحب الناس لهيلين، واستمرت مع هيلين بعد وفاة سوليفان 20 سنة لحد ما توفت هى كمان. وعشان كده كان من الطبيعى إن الثلاثى سوليفان وبولى وهيلين يدفنوا مع بعض فى نفس المقبرة.
عموماً بعيد عن جو الدراما ده خلينا نحاول نفهم رحلة التعليم كانت ماشية إزاى.
💧 المفتاح: لحظة مضخة الماء وتفجير الوعي
أنا عايزك تفكر فى كلمة مشهورة بنستخدمها كتير ولتكن مثلاً المية. ارجع بقى للسؤال اللى سألتهولك فى المقدمة: طفلة أدامك مش بتشوف ولا بتسمع ولا تعرف أى حاجة. إزاى طفلة زى دى هتفهم إن فى حاجة اسمها مية؟ إزاى أصلاً هتفهم إن فى حاجة إسمها لغة!
هنا بقى بتظهر عبقرية آن سوليفان. واللى هتستخدم نظام هيعرف بـنظام تهجئة الأصابع أو التهجئة اليدوية الأبجدية أو الـ Deafblind manual. سوليفان كانت بتجيب مثلاً كوباية مية، وبعدين تضغط بصوابعها على كف ايد هيلين بأسلوب معين، وبعدين تخلى هيلين تلمس المية بصوابعها او حتى تشربها.
وكل مرة هيلين تحتاج المية، أو كل مرة سوليفان تدى حتى المية لهيلين من غير ما تطلبها، كانت تعمل نفس الضغطات بنفس التتابعات وبعدين تخليها تلمس المية. التكرار ده كانت سوليفان قاصده منه إنها تعمل لـهيلين رابط ذهنى معين. كانت عارفة ان عقل هيلين فى مرة من المرات هيكون رابط بين شيء محسوس زى الميه ورمز حركي مكرر عن طريق لمسات بأصابع.
خلى بالك كلمة المية دى مجرد مثال لإسم من الأسماء فى اللغة. لكن سوليفان كانت بتعمل نفس الأسلوب مع حوالى 20 مفردة: كلمات زى المية، طعام، عروسة، معلقة، حلوى وغيره. في البداية هيلين كانت فاكرة إن الضغطات دى اللى بتعملها سوليفان على إيدها مجرد لعبة، أو مثلاً التمن اللى لازم تدفعه عشان تاخد حاجة بداله.
لكن مع الصبر المبهر من سوليفان اللى كانت عارفة إن الربط هيحصل فى لحظة معينة، فعلاً جت اللحظة التاريخية دى عند مضخة المية الموجودة فى حديقة البيت. اللحظة اللى هتقول عنها هيلين فى كتابها قصة حياتى: “ذلك اليوم عند مضخة الماء كان يوم مولدي الحقيقي .. ففيه فهمت أن لكل شيء اسم، و أن العالم فجأة أصبح حيًا“.
فلما كانت هيلين وسوليفان واقفين عند مضخة المية فى الجنينة، ولما كررت سوليفان اللى بتعمله كل مرة، تضغط بأسلوب معين بصوابعها على كف ايد هيلين، وبعدين تخلى هيلين تلمس المية اللى بتخرج من المضخة، جت لحظة الحظ السعيد وقدرت هيلين إنها تربط بين الرمز المكتوب على يدها والشيئ البارد اللى بيتدفق على ايدها التانية.
فى اللحظة دى فهمت هيلين ان ضغطة الأصابع ما كانتش لعبة ولا تمن بتدفعه. بقت عارفه ان الإنسانه اللى معاها دى بتحاول تعلمها. كانت بتقولها ازاى تعبر مثلاً عن المية. لو هى قدرت تعمل نفس حركة الأصابع على ايد الإنسانة اللى معاها، المية هتجيلها وقت ما تطلبها.
وبكده كانت مضخة المية هى المفتاح اللى فتح باب الفهم عند هيلين. كانت اللحظة اللى خلتها تكسب 20 مفردة مرة واحدة. وبرضه كانت اللحظة اللى هتخليها مستعدة تكون مستعدة لإضافة أى عدد من المفردات. خلاص هى فهمت الطريقة: لما سوليفان تضغط بأسلوب معين على كف إيديها، هتكون بتقولها على إسم الحاجة اللى هتديهالها حالاً.
أنا عايزك يا صديقى تحاول انك تعيش الموقف .. هيلين أخيراً لقت هدف تعيش عشانه .. هى كانت عايشة فى عالم أسود صامت مش باين ليه أى ملامح أو أهداف أو تسلية أو أى شيئ. فجأة إتأكدت إن الإنسانة اللى معاها دى فى صفها مش ضدها. ولقت إن فى حاجة مهمة بقى مطلوب منها تحققها عشان تفهم العالم اكتر. أخيراً بقى عندها هدف تحاول فيه وتملى وقتها منه. كل المطلوب منها حالياً إنها تشغل نفسها بـفك الأكواد. فجأة بقت مشغولة بحاجة زى لعبة ذكاء أو زى الكلمات المتقاطعة.
ولذلك فمضخة المية دى كانت هى مفتاح الباب اللى دخلت منه للعالم. وبرضه كانت اللحظة اللى فهم فيها العالم إنه قدام عقل نادر وعبقرى. عقل ضخم كان محتاج ان حد يخليه يشتغل. ولما اشتغل كل حاجة مشيت بسرعة.
اتضح إن هيلين عندها شراهة فى التعلم. عرفت الأسماء اللى فى اللغة. وهتعرف إن الاسم بيكون مكون من حروف. وعرفت إن كل حرف ليه أسلوب معين من اللمس بالأصابع على الإيد. واستمرت العملية بسرعة مذهلة. فبعدها اتعلمت هيلين القراءة بطريقة برايل. وبعدها اتعلمت الكتابة بالقلم والآلة الكاتبة. كل حاجة بنفس الطريقة: الإحساس والتواصل باللمس مع سوليفان. قدرت أخيراً توصل لشكل كلمة مية الحقيقى اللى بيشوفه الأصحاء. فكانت سوليفان تكتب كلمة مية حرف حرف على إيدها … $\text{w-a-t-e-r}$.
كل اسم جديد بتتعلمه كان بيقربها أكتر من العالم. بس الحقيقة كان فى لحظة مرهقة وتخوف بالنسبة لهيلين. اللحظة دى كانت بعد إتقان هيلين معرفة الأسماء الموجودة فى اللغة. فى الوقت ده اتفاجئت هيلين بإن سوليفان بتعلمها حاجة جديدة. بس حاجة كان واضح إنها أصعب من الأسماء: الحاجة دى كانت هى قواعد اللغة. يعنى حاجات زى الأفعال والأزمنة والتصريفات .. الجزء ده بتقول عنه هيلين فى كتابها قصة حياتى انه كان أصعب شيئ تفهمه على الإطلاق. كان أصعب من إنها تفهم الموسيقى! كان أصعب حتى من إنها تعرف تتكلم بالصوت!
فيا ترى فعلاً إزاى اتعلمت هيلين الأفعال وبقية القواعد؟ وازاى هتتعلم تسمع الموسيقى؟ وازاى عرفت تتكلم رغم انها فقدت السمع قبل ما توصل لـ 3 سنين؟ الأسئلة دى وغيرها هم اللى هنبدأ فى إجابتهم ونكمل القصة فى الجزء التانى.







