في هذه الحلقة من سلسلة العلم بالملعقة، بنعيش الجزء الثاني من قصة هيلين كيلر وآن سوليفان — الثنائي اللي تحدّى المستحيل.
بعد ما اكتشفت هيلين المفتاح اللي خرجها من عالم الصمت والظلام، بتبدأ مرحلة جديدة من المعجزات التعليمية.
تعرف على الطريقة العبقرية اللي استخدمتها سوليفان لتعليم هيلين المفاهيم اللغوية — من الأسماء إلى الأفعال، ومن الحروف إلى قواعد اللغة — بأسلوب لمس فقط!
هتشوف إزاي بنت لا تسمع ولا ترى قدرت تفهم وتتكلم، بل وتتعلم خمس لغات وتؤلف 14 كتابًا من أهم كتب القرن العشرين.
المقال أو الحلقة بتتناول:
رحلة تعليم هيلين قواعد اللغة بطريقة مبتكرة.
اكتشافها لمعنى “الأفعال” من خلال اللمس والتجربة الحسية.
كيف تجاوزت الاستحالة الطبية وتعلمت النطق باللمس!
الدور الخارق لآن سوليفان في صنع معجزة تعليمية غيّرت نظرة العالم للإعاقة.
وتأثير هيلين كيلر في تطوير التعليم للمكفوفين والصم.
القصة دي مش مجرد سيرة ذاتية…
دي درس في الإرادة والإبداع والبحث عن النور وسط العتمة.
🗣️ الجزء الثاني: المعجزة التي تحدت الطب (هيلين كيلر تتعلم النطق)
فى الجزء الأول يا صديقى من القصة دي، كنا وصلنا للحظة اللى لقت فيها هيلين المفتاح، واللى هيعديها من سجن العالم الصامت المظلم اللى كانت عايشة فيه، للعالم الطبيعى اللى كلنا نعرفه. وبيرجع الفضل فى العثور على المفتاح ده لاستاذتها ومعلمتها الصبورة آن سوليفان. واللى ربنا جعلها سبب فى عودة هيلين للحياة عن طريق أساليبها العبقرية فى التعليم.
فبعد محاولات وتكرارات كتير، نجحت طريقة سوليفان اللى كانت فيها بتخلى هيلين تلمس شيئ معين زى المية مثلاً، وبعدين تضغط بأسلوب معين بصوابعها على إيد هيلين. كان المقصود من سوليفان إنها تفهم هيلين إن المية ليها اسم وبيكتب كده. وفعلاً قدرت هيلين إنها تربط بين الشيئ المحسوس اللى هو المية أو أى شيئ تانى، بـالرمز الحركى اللى هو أسلوب الضغط بالأصابع على راحة الإيد.
ولو يعنى حد ما تابعش الجزء الأول أو أول مرة يشوف القناة عموماً، فخلينى أقوله إن الهدف من القصة دى ان هيلين تعرف تتواصل مع العالم. بحيث إن هيلين اللى مش بتشوف ولا بتسمع ولا بتتكلم لو احتاجت للمية، هتروح على ايد سوليفان وتعمل نفس الكود الحركى بصوابعها على ايد سوليفان. وبفضل الطريقة دى اللى بتسمى بـتهجئة الصم المكفوفين أو الـ deafblind spelling، قدرت كتير من الحالات الشبيهة لحالة هيلين إنها تتواصل مع العالم اللى كانت معزولة عنه.
وفى نفس الوقت فكرة التواصل دى بتكون هى مفتاح التعليم. فمعنى إنى قادر أتواصل مع اللى قدامى يبقى برضه أقدر أعلمه وأفهمه أكتر عن العالم. لكن طبعاً ده بيعتمد على صبرى أنا كمعلم، وعلى مدى استيعاب الإنسان اللى بعلمه.
لكن من الناحية دى سوليفان وهيلين كانوا استثنائيين بكل معنى الكلمة. فسوليفان ذكية جداً وعندها صبر أيوب، و هيلين اتضح ان عندها عقل عبقرى كان منتظر حد يشغله. ولذلك هيلين فهمت فى وقت قياسى إن كل شيئ فى الدنيا له اسم أو مسمى، وقدرت إنها تعبر عن المسميات دى بطريقة الـ deafblind spelling. بل انها كمان اتعلمت بعدها طريقة برايل. وبنفس السرعة قدرت أخيراً إنها تكتب بالقلم وبالآلة الكاتبة شكل الحروف الحقيقى.
وكنا ختمنا الجزء الأول بظهور مشكلة فى اللغة قابلت هيلين. المشكلة دى كانت فهم ان اللغة مش مجرد بس أسماء، اللغة فيها كمان حاجة اسمها القواعد. يعنى الأفعال والأزمنة والصفات والتصريفات .. إلى آخره.
بس المذهل بقى إن هيلين مش بس قدرت تتغلب على مشكلة فهم قواعد اللغة الإنجليزية، دى كمان فهمت واتعلمت أسماء وقواعد أربع لغات إضافية: الألمانية والفرنسية واللاتينية اليونانية القديمة. أما المعجزة الأكبر فكانت فى تغلبها على مشكلة النطق. فرغم إننا وضحنا فى الجزء الأول إستحالة الحكاية دى طبياً، إلا إن هيلين وسوليفان عرفوا يلاقوا طريقة يعدوا بيها المستحيل!
إزاى بقى المعجزات دى كلها حصلت؟.. هو ده موضوعنا انهاردة. أهلاً وسهلاً بيكوا، أنا عماد عصام .. وده موضوع جديد من العلم بالملعقة.
🧠 ما فيش مستحيل: إتقان 5 لغات في 3 سنوات
بما إنى خلاص قلتلك فى المقدمة ان هيلين قدرت تتعلم قواعد 5 لغات كاملين، فخلينا نخش فى الموضوع على طول.
هيلين بدأت بفهم أفعال وأزمنة وتصريفات وحتى بلاغة اللغة الإنجليزية. يعنى وصلت بالفهم لمرحة الاحتراف. الموضوع ده خد منها أقل من 3 سنين! فـهيلين وهى عندها عشر سنين كانت بتقرأ وتكتب الشعر. .. كنا قلنا فى الجزء الأول إن آن سوليفان قابلت هيلين أول مرة قبل ما تتم الـ 7 سنين. وفى خلال الـ 3 سنين الأولى .. علمت هيلين أولاً قواعد السلوك، وبعدين علمتها الأسماء، وبعد الأسماء اتعلمت هيلين الأفعال، بعدهم اتعلمت الحروف والصفات، وأخيراً عرفت الأزمنة والتصريفات. واستمرت كده لحد ما عرفت الصعوبات الخاصة (special difficulties) فى اللغة، واللى بتخلى اللى يفهمها يبقى عنده قدرة مش لمجرد استخدام اللغة، لكن كمان بتديله القدرة على الإبداع البلاغى.
والحقيقة إن تراكم الإعجازات دى مش بس بيخلى القصة ملهمة، لكن ده فعلاً بيخليها غير قابلة للتصديق! ولذلك فاللى مش هيصدق القصة فعلاً محدش هيقوله حاجة. فـ لا أنا ولا غيرى هنقدر نمسك كل معجزة ونفهم الناس هى حصلت إزاى بالظبط. والكلام ده له أسباب كتير:
أولاً لأن سواء انا أو غيرى عمرنا ما هنقدر نوصل لبراعة آن سوليفان فى الشرح.
وثانياً لان مش كل الناس هيلين كيلر.
وثالثاً لأن الإصرار على التوضيح بكل دقة هيحتاج على الأقل عشرة أجزاء، وفى الآخر كمان مش مضمون يكون كافى.
ورابعاً بقى لان عبقرية وقدرات الثنائى سوليفان وهيلين فى التواصل مازالت فعلاً مش مفهومة بصورة كاملة لحد إنهاردة.
فسوليفان وهيلين ربنا ربط أرواحهم بطريقة عجيبة مالهاش مثيل. فـالاتنين نجحوا فى اختراع تقنيات عجيبة هيستفيد منها الحالات الشبيهة بعدهم، لكن فى النهاية ما حصلش أبداً إن حد وصل للدرجة بتاعتهم. محدش اقترب أبداً من إجادة واحترافية هيلين فى اللغة، وبالتأكيد ده بيرجع جزء كبير منه لقدرات هيلين نفسها فى الاستيعاب.
بس المهم أنا مش عايزك تقلق، يعنى مش عايز كلامى يوحيلك إنى مش هحاول أوصلك ولو جزء صغير من طرق التواصل. أنا هقولك على مثال واحد وانت تقدر تقيس عليه بقية القواعد. المثال هيكون عن طريقة إفهام هيلين إن فى حاجة فى اللغة إسمها الأفعال!
🎓 تعليم هيلين الأفعال: لعبة البازل العقلي
زى ما قلنا هيلين قدرت تفهم منطق الأسماء فى اللغة، وقدرت كمان تعبر عن الأسماء دى بالكود أو الرمز الحركى بصوابعها. فأنا عايزك تتخيل الموقف وسوليفان بتحاول تفهمها الأفعال.. هيلين عارفة إن كل شيئ له اسم أو مسمى. هى ليها اسم .. المعلمة بتاعتها ليها اسم .. الحيوانات ليها اسم .. الجمادات ليها اسم.
فمثلاً لو سوليفان اديتلها جملة بتقول هيلين تشرب الماء. فالمشكلة عند هيلين هتبقى بس فى فعل “يشرب“.. كمان هيلين عارفة حاجات زى قهوة، شاى، لبن، حليب، الخ.
فالفكرة هنا إن سوليفان كانت تكتب ليها جملة زى اللى فاتت: هيلين تشرب الماء. وبعدين تدى هيلين كباية مية وتخليها تشرب شوية أو تلمسها عشان تعرفها. وبعدين ترجع سوليفان تكرر نفس الجملة ونفس الخطوات، بس المرة دى تديها ازازة مية مش كباية. وبعدين تالت مرة تكرر نفس الخطوات وتكتب نفس الجملة: هيلين تشرب الماء. والمرة التالتة دى تخليها تشرب من المضخة. وبعدين ترجع سوليفان تعيد نفس الخطوات لكن مع كلمة جديدة ولتكن مثلاً الحليب، وتكتبلها بالأصابع: هيلين تشرب الحليب. وطبعاً تخليها تدوقه عشان تعرف إنه سائل مختلف. نفس الكلام برضه مرة تديها الحليب فى كوباية، ومرة فى ازازة، ومرة فى الزمزمية بتاعتها. وترجع برضه تكرر كل الخطوات وتغير كلمة الحليب وتستعمل مثلاً كلمة القهوة: هيلين تشرب القهوة.
وبعدين ترجع سوليفان وتغير بقى إسم هيلين وتحط اسم سوليفان، يعنى الجملة تبقى سوليفان تشرب الماء. وطبعاً تخلى هيلين تحس انها بتشرب.
وخلى بالك أنا بديك 3 حاجات زى المية والحليب والقهوة، وبكلمك عن شخصيتين همه هيلين وسوليفان. انما سوليفان دى الصبر عندها ما كانش بينفد. كان ممكن تخليهم عشرين مشروب عادى. وكان ممكن بدل شخصيتين تنادى على العيلة كلها وتطبق عليهم المثال! ده مش كده وبس، سوليفان ما كانتش شغالة معاها على فعل واحد. أنا بس بديلك مثال بفعل يشرب. إنما سوليفان كانت بتشتغل معاها كبداية على 20 فعل من أشهر الأفعال زى ما عملت وقت تعليم الأسماء.
المهم ان الحكاية دى خلت هيلين تحاول ترتب عقلها. هى دلوقتى قدامها جملة من 3 كلمات.. مثلاً هيلين تشرب الماء. الجملة فيها كلمتين من النوعية اللى هى تعرفها وهمه الأسماء. والكلمتين دول ممكن يتغيروا ويتبدلوا بأى أسماء. ممكن مثلاً سوليفان تشرب الماء. ممكن أغير هيلين وسوليفان والماء وأخليها مثلاً ميلدريد تشرب اللبن (Mildred هو اسم أخت هيلين الصغيرة لو نسيت).
الخلاصة إن الكلمة التالتة فى الجملة أدام هيلين دايماً ثابتة. وواضح جداً إن الكلمة دى بتعبر عن حركة أو حدث. الحدث ده وهو فى جملتنا دى حدث أو فعل الشرب. الفعل ده طبعاً هى عارفاه كويس وبتعمله كل يوم، بس ما كانتش عارفة المسمى بتاعه.
بس برضه فى ملاحظة تانية: حدث الشرب ده او الكلمة الثابتة اللى مش بتتغير فى الجملة بييجى عليها وقت وتتغير برضه لما الحدث نفسه يتغير. يعنى لما سوليفان غيرت الجملة وخلتها مثلاً هيلين تأكل التفاح، فى اللحظة دى اتغيرت الكلمة الثابتة اللى ما هياش من الأسماء وبقت كلمة تانية. وفى نفس الوقت برضه الحدث نفسه اتغير وبقى الأكل مش الشرب.
فكر بقى فى نفس المثال مع أفعال زى يلعب.. يجرى.. يسبح. اللكلام ده أدى لـهيلين لعبتها المفضلة اللى عاملة زى البازل. وبالتأكيد عقل عبقرى زى عقلها هيكون من السهل عليه يشبك الخيوط كلها فى بعض. ولذلك كان سهل على هيلين إنها تعرف إن الأفعال دى عبارة عن أحداث. والأحداث دى بتعبر عن شيئ مش بتقدر تلمسه. على عكس الأسماء اللى ممكن تلمسها. وبكده يبقى اللغة مش مجرد أسماء، اللغة فيها كلمات مش أسماء وبتعبر عن اللى بنعمله.
خلى بالك إحنا بنتكلم عن واحدة كانت درجة ذكاءها فى وجود إعاقتها 160. يعنى واحدة زى دى لو كانت من الأصحاء، كان ممكن توصل درجة عبقريتها لـ 200 بسهولة. ده مع الوضع فى الاعتبار إن العبقرية حسب النظام الكلاسيكى بتبدأ من 140! وعشان نفتكر مع بعض برضه خلينى أقولك إن متوسط درجة ذكاء الإنسان العادي بتتراوح بين 85 الى 115. أينشتاين نفسه معدل ذكاؤه تم تقديره ما بين 160 و180.
يعنى الخلاصة إنت لازم تقييس الأمثلة اللى كلمتك عنها على تلقى عقل زى عقل هيلين. ولذلك فالواقع اللى كانت هيلين عايشاه فى اللحظة دى انها بترسم خريطة! كان فى سيناريو لعالم كامل بيترسم فى خيالها. وده ببساطة لإن اللغة ما هى إلا وصف للواقع اللى بنعيشه. ولذلك من مقولات هيلين الشهيرة: “اللغة بالنسبة لي ليست فقط كلمات ننطقها او نسمعها، لكنها أفكار نعيشها ونشعر بها“.
لكن طبعاً على الرغم من أى حاجة فالموضوع مش بسيط. أظنك حاسس ان الموضوع عبارة عن معجزة. معجزة فى استيعاب وعبقرية هيلين، ومعجزة فى صبر وعزيمة وأفكار سوليفان. وخلى بالك ده كمان فى المستقبل سوليفان هتروح مع هيلين الجامعة. وفى السنة الأولى كانت كل محاضرة بتتكتب وتتشرح لهيلين فى البيت، أو لو فى إمكانية كانت بتترجم المحاضرة لحظياً بالإشارة اللمسية (Deafblind manual). يعنى الدليل على عبقرية سوليفان هى كمان، انها كانت محتاجه تفهم الدكتور اللى بيتكلم بيقول إيه.. على الأقل فى السنة الأولى.
فالحقيقة إنه بعد ما ذاع صيت الدراما دى اللى بتقدمها سوليفان وهيلين فى أول سنة بالكلية، فى السنة التانية الجامعة نفسها أصدرت قرار بـطبع المحاضرات والكتب بطريقة برايل. بل هتبدأ بعد كده خطط تعليمية جديدة للمكفوفين والصم والبكم. فالمعجزتين آن سوليفان وهيلين كانوا فعلاً سبب فى ثورة للمناهج التعليمية.
🌟 توالي المعجزات (الاحتراف والتأليف)
بما إنك اتدربت شوية على مفاجآت هيلين واستاذتها، فخلينى أقول إن هيلين فهمت قواعد اللغة كلها مش بس الأسماء والأفعال، بل وكمان فهمتها بطريقة احترافية. يعنى وصلت للإتقان والإجادة اللى تسمحلها انها تحاضر وتؤلف الكتب.
فأول كتاب صدر لـهيلين كان حتى فى الكلية قبل التخرج، وكان بعنوان “قصة حياتي“. وكان الكتاب بيغطى مرحلة الطفولة لحد سنة 21 سنة. والكتاب ده اللى تم نشره سنة 1903، هيبقى واحد من أهم 100 كتاب فى القرن العشرين. وهيتم ترجمته لكل لغات العالم تقريباً. وبالمناسبة ده كان مجرد كتاب من عشرات الكتب اللى هتصدرها هيلين بعد كده. فـهيلين قدمت 14 كتاب فعلى يعنى تم تأليفه عشان يكون كتاب، وبقية الكتب تم تجميعها من مئات المقالات والمحاضرات.
والحقيقة أنا معنديش حاجة أقولها لتفسير القدرة دى غير ترديد كلام هيلين نفسه. هى قالت جملة بتقول: “القيود الحسية لا تقتل العقل، لكن توقظه من سباته“. يعنى قصدها ان الأزمات هى اللى بتفجر الطاقات اللى جوانا، واللى ما نعرفش أصلاً انها عندنا. فهيلين بتقول إن الطاقات والقدرات موجودة عند كل الناس، بس مش كل الناس بتدور عليها أو بتلاقيها. بتقولك إنت كإنسان سوى من الأصحاء ما دورتش على القدرات دى اللى ربنا حطها فيك لأنك عمرك ما احتجتها. وعشان كده العقل والإرادة والروح عندك نايمين ومش شغالين بأقصى طاقتهم.
والمشكلة إن الإنسان الطبيعى طبعه الاستسهال. محدش هيدور بالعزيمة اللى عند هيلين واللى زيها. فـهيلين واللى زيها الموضوع بالنسبة ليهم حياة أو موت. موضوع اجبارى مش اختيار. إما يشغلوا القدرات دى وإما ينعزلوا عن العالم. على فكره المعنى اللى بتحاول هيلين توصلهولنا إحنا جربنا حاجة شبيهة بيه فعلاً. إحنا عندنا حكمة شهيرة بتلخص المعنى ده وغالباً سمعتها قبل كده: “الحاجه أم الاختراع“.
أضف بقى للكلام ده إن هيلين تحديداً ما كانتش بتموت نفسها مثلاً عشان تتعلم. هيلين كانت فعلاً مستمتعة ومبسوطة بالتجربة. زى ما قلنا فى الجزء الأول لقت أخيراً معنى للعالم وهدف تسعاله ويشغل وقتها. ولذلك هيلين عبرت عن المعنى ده بجملة جميلة جداً بتقول: “عندما يغلق باب للسعادة .. يفتح آخر، لكن فى كثير من الأحيان نستمر فى النظر لهذا الباب المغلق .. بحيث لا نرى الأبواب التى فتحت“.
🗣️ معجزة النطق: اللمس يسمع ويقلد
أكيد بقيت عارف إن المفاجآت والمعجزات مع هيلين ما بتنتهيش. بس تقريباً المعجزة المرة دى هى المعجزة الأكبر. المعجزة الجديدة كانت فى قدرة هيلين على النطق!
كنا اتكلمنا فى الجزء الأول عن فقدان الذاكرة الطفولى (Childhood Amnesia) واتكلمنا عن الـ hippocampus، واللى ملخصها بيقول إنه استحالة الطفل اللى فقد السمع قبل ما يوصل 3 سنين على الأقل يقدر انه يتكلم. وده لأسباب طبية مش مسألة عبقرية أو ذكاء. بس العجيب إن هيلين برضه قدرت تعملها!
هيلين عملتها بطريقتها اللى أبدعت فيها مع أستاذتها: طريقة اللمس والإحساس. هو مش القاعدة بتقول عشان أتكلم لازم أسمع فى الأول؟ طيب ما هيلين فعلاً بقت بتسمع بالإحساس! هيلين بقى عندها درجة خارقة من الإحساس بتخليها تستخدم حاسة اللمس زى حاسة السمع والبصر. يبقى خلاص كده المشكلة اتحلت. أكيد طبعاً الحكاية مش بالبساطة اللى بقولها دى. الموضوع فعلاً بيبدو إنه غير قابل للفهم!
عموماً عن حتة تعليم النطق دى بتقول آن سوليفان فى مقطع شهير ليها: انها اكتشفت مع هيلين إنه بوضع إيد هيلين بطريقة معينة على وشها، تحديداً بتكون أصابع اليد واحد منهم على الشفايف، وواحد على الأنف، وواحد على الحنجرة وغيره على الحلق، والأخير على عظام الفك. الأسلوب ده بيخلى هيلين تحس بالحروف وتستنتجهم!
يعنى بتقدر تحس بـميكانيكا الوجه كلها وتربطها مع بعض. بتحس بـحركة الشفايف والهوا اللى طالع. وبتحس بـذبذبة أو اهتزازات الحنجرة والحلق والأنف وعظام الفك. طبعاً قدرة هيلين على استنتاج وربط الأحرف المحسوسة مع بعض لتكوين الكلمات أقل ما يقال عنه معجزة بالمعنى الحرفى مش المجازى. وده على الرغم من إنها بتقول إن الموضوع بسيط.
بتقولك أنت نفسك جرب حتى تحط صباع واحد على شفايفك وجرب الطريقة. انطق الحروف الأبجدية من غير صوت لكن بحركات النطق الصحيحة. قول ألف .. به .. ت .. ث، أو A .. B .. C ..D. جرب وحاول تحس. هتلاحظ بنفسك إن كل حرف ليه طريقة معينة فى حركة الشفايف وكمية الهوا اللى بتخرج. برضه لو حطيت صابع على الأنف هتحس بذبذبة الحروف الأنفية زى الـ M و الـ N. الخلاصة هتعرف إن الحروف ليها مخارج وأسلوب ذبذبة معين.
والفكرة بقى إن هيلين لو قدرت تعمل محاكاة عضلية للي هى حساه من حطة إيديها على وش سوليفان، هتقدر تنتج الأصوات الصحيحة. وهو ده فعلاً اللى حصل! هيلين بتحاول تساعدنا عشان نفهم التقنية دى. بتقول إن أسلوبها زى أسلوب الجماعة اللى بيتعلموا العزف سماعى. فى نوع من العزف بيتعلمه الطفل من غير أى نوته ولا أى أدوات مساعدة. هو لوحده كده تلاقيه بيعرف يعزف! يعنى ممكن تسمعه نغمة معينة عمره ما سمعها ولا عارف النوتة بتاعتها، لكنه بالموهبة بيقدر يسمعك نفس النغمة من مجرد الإحساس. وده تقريباً مع الفرق طبعاً حاجة شبه اللى عملتها هيلين. هيلين حست الحرف بيطلع منين وقلدت الحركة. أكيد حاولت مئات أو حتى آلاف المرات. لكن إرادتها خلتها تتحمل المحاولات الفاشلة عشان توصل للمعجزة.
وصحيح إن نطقها ما كانش مثالى، وكانت بتحتاج لحد يعرفها عشان يفهمها كويس، إنما فى النهاية صوتها طلع وكانت بتنطق.
🛑 الجزء الثالث: قصص لم تُروَ بعد
أنا فعلاً مش قادر أقولك أكتر من كده حاجات تقربلك حجم المعجزة اللى عملها الثنائى العجيب: هيلين وسوليفان. أنا ممكن بس أضيفلك كلام من بتوع التنمية البشرية اللى أنا ما بحبهوش، بس الفكرة انه هيبقى المرة دى كلام حقيقى مش مجرد كلام للتشجيع.
إحنا نقدر نقول أن هيلين وسوليفان أعادوا تعريف كلمات زى الممكن والمستحيل. هيلين وسوليفان أثبتوا اننا ما نعرفش كتير عن قدراتنا البشرية وعن الإرادة. وطبعاً الاتنين غيروا نظرتنا ونظرة العالم كله لمعنى الإعاقة.
الحقيقة إن القصة دى رغم اننا خلصنا عليها جزئين لحد دلوقتى، إلا ان لسه فيها حاجات كتير ما اتقالتش. كان نفسى أكلمك عن المعانى العميقة اللى ظهرت فى كتبها. مثلاً كان نفسى أكلمك عن كتاب “3 أيام من الإبصار” (Three Days To See)، الكتاب المؤثر اللى صدر سنة 1933. وفيه هيلين حكت عن كل حاجة نفسها تعملها لو رجع ليها البصر بس لمدة 3 أيام. كنت عايز أكلمك عن نضال هيلين الاجتماعى والسياسى. خلى بالك لما هيلين احترفت اللغة وبقت بتكتب فى الجرايد وبتعمل مؤتمرات، بدأ يظهر ليها معارضين ونقاد وأعداء زيها زى أى شخص طبيعى.
كمان كان المفروض أكلمك عن مساهمات بولى تومسون على مدار 20 سنة مع هيلين بعد وفاة سوليفان، لكن للاسف الوقت ما سمحش نقول غير اسمها تقريباً. وده على الرغم من إن بولى كان ليها مواقف كتير مهمة مع هيلين، والدليل ان هيلين بتعتبرها أقرب الناس ليها بعد سوليفان. لكن على الأقل ممكن تعرف إن قيمتها عند هيلين هى وسوليفان خلتهم التلاتة يتدفنوا مع بعض فى نفس المقبرة.
كان نفسى برضه أكلمك عن سفريات هيلين حوالين العالم، خصوصاً سفرياتها لـ 3 دولة عربية: مصر، ولبنان، وسوريا. كنت عايز أكلمك عن قصة الحب اللى جمعت بين هيلين وPeter Fagan وليه ما تجوزوش. لكن فعلاً الموضوع طول اكتر من اللازم.







