تخيل تصحى من النوم وتكتشف إن حركة كوكب الأرض نفسها اتغيّرت!
الاتزان، الجاذبية، والسرعة… كل شيء اتبدّل، مش بسبب كارثة طبيعية أو حرب،
لكن بسبب مشروع هندسي عملاق: سد الممرات الثلاثة في الصين.
السد ده مش بس غيّر مجرى نهر، ده غيّر فعليًا سرعة دوران الأرض!
في هذا المقال من سلسلة العلم بالملعقة، بنغوص في تفاصيل بناء السد الأكبر في التاريخ —
من فكرته الأولى سنة 1919 لحد اكتماله في 2015،
وبنكتشف بالأرقام كيف أثّر وزن ملايين الأطنان من المياه والخرسانة على عزم القصور الذاتي للأرض.
رحلة مذهلة تجمع بين الهندسة، الفيزياء، والطبيعة… وتخليك تسأل نفسك:
هل ممكن إنجاز بشري واحد يغيّر توازن كوكب كامل؟
🤯 الانجاز الكوني: سد يغير حركة دوران الأرض!
أنا عايزك تتخيل انك صحيت من النوم عشان تلاقى حركة الكوكب كله اتغيرت! الاتزان والجاذبية والسرعة.. كل شيئ. كل حاجة كنت بتعملها بقيت مش عارف تعملها بسبب تغير الظروف الفيزيائية للكوكب. وتخيل كمان ان الحكاية دى حصلت مش بسبب حرب عالمية ولا اى نوع من الكوارث، ده بالعكس الحكاية دى حصلت بسبب انجاز هندسى عملاق كان الناس طايرين بيه!
.. تعرف يا صديقى إن الأسئلة اللى سالتهالك دى وبدأتها بكلمة تخيل هى حقيقة فعلاً؟ ! على الأقل حقيقة من ناحية تغيير سرعة دوران الأرض! الكلام ده حصل بسبب مشروع هندسي عملته الصين اسمه سد الممرات التلاتة أو Three Gorges Dam. والمشروع ده فعلاً خلى دوران الأرض يبقى أبطأ واليوم الأرضى يبقى أطول!
إزاي بقى حاجة زى دى حصلت؟ وإزاى ميه وخرسانة ممكن تأثر على حاجة ضخمة زي كوكبنا؟ تعالوا نحكي الحكاية من الأول…
🏗️ مراحل بناء سد الممرات الثلاثة
سد الممرات الثلاثة أو سد الخوانق الثلاثة هو سد عملاق بنته الصين على نهر الـ Yangtze، تالت أطول أنهار العالم. وكان الهدف من بناء السد ده حاجتين أساسيتين: أولاً انتاج جزء كبير من الطاقة الكهرومائية اللى محتاجاها الصين. وثانياً وده الأهم: التحكم فى الفيضانات وحماية الناس والبنية التحتية من التدمير.
فالنهر ده اللى بيعتبر صاحب الرقم القياسى فى سرعة جريان المية، كان وقت الفيضان بيكتسح مئات القرى ويهدد حياة الملايين. ده غير طبعا الخسائر المادية اللى بتحصل نتيجة لغرق الاراضى الزراعية. والمشكلة دى ما كانتش بس بتأثر على مئات القرى الموجودة بالقرب من ضفاف النهر، انما كمان دى كانت بتهدد الأمن الغذائى فى مدن صينية رئيسية كتير، زى ووهان و شنغهاي ونانجينج (Wuhan, Nanjing, and Shanghai).
ويمكن اللى يسمع كلام زى ده يتخيل إن النهر الخطير ده كان متساب براحته، بينما الواقع إن السدود دى.. وأنا قاصد انى أقول السدود بالجمع، فعلاً كانت منتشرة على طول مجرى النهر. لكن بسبب القوة والسرعة الكبيرة لجريان المية والطبيعة الجغرافية للنهر، دايماً كانت السدود التقليدية بتنهار وتحصل المشاكل.
ومع بداية التسعينات من القرن العشرين، بقى واضح إن فكرة إن كل ما سد صغير يبوظ نبقى نصلحه ما بقتش فكرة عملية. و كان من الواضح إن الأفضل هو بناء سد عملاق يقوم بمهمة السدود الصغيرة لوحده. خصوصاً إن الفكرة دى كانت أصلاً فكرة قديمة وحلم للحكومات المتعاقبة على الصين. لكن بسبب الصعوبات الهندسية والتكنولوجية المطلوبة، وكمان بسبب التكاليف المادية الكبيرة، كان دايماً بيلجأ المسئولين للحلول السهلة أو المؤقتة، يعنى عن طريق تصليح السدود والقناطر الصغيرة.
لكن الحقيقة إن فكرة بناء السد الكبير كانت موجودة من سنة 1919. وأول من فكر فى الحل ده كان الرئيس صن يات صن (Sun Yat-sen)، واللى بيعتبر مؤسس جمهورية الصين الحديثة. لكن غير بقى الصعوبات الهندسية والتكاليف المادية اللى اتكلمنا عنهم، فكمان حظ Sun Yat-sen ما كانش أحسن حاجة مع موجة الحروب اللى ضربت العالم، ابتداءا من الحرب العالمية الأولى، ومروراً بالحرب الأهلية الصينية، ووصولاً للثورة الشيوعية فى الصين.
لكن خلال فترة الثمانينات من القرن العشرين، وبعد التطور الملحوظ فى إمكانيات الصين، رجعت فكرة السد العملاق تانى للظهور باعتبارها الحل الأمثل. وهو الأمر اللى أسفر فى النهاية على موافقة مجلس الشعب على المشروع سنة 1992. عشان تبدأ أعمال التنفيذ الفعلية فى يوم 14 ديسمبر من سنة 1994.
وفى النهاية تم انجاز المشروع العملاق ده على أربع مراحل:
المرحلة الأولى وتم الانتهاء منها سنة 2003.
و المرحلة التانية واللى شملت بداية الملئ التجريبى لمستويات منخفضة انتهت سنة 2006.
و المرحلة التالتة اللى انتهت فى 2012 وظهر معاها الشكل النهائى للسد العملاق.
لكن النهاية الفعلية لكل الأعمال كانت مع انتهاء المرحلة الأخيرة فى ديسمبر 2015. وفى خلال المرحلة دى تم إضافة مصاعد السفن وتهيئتها للملاحة. بالإضافة الى أنها كانت المرحلة اللى شهدت ملئ السد للحد الأقصى البالغ 175 متر.
ومع ملاحظة بس الرقم اللى بيعبر عن الفارق الضخم فى المنسوب، تقدر تتخيل حجم و أوزان الخرسانة والحديد اللى تم استخدامها لحجز الكميات المهولة دى من المية.
📊 مقارنة أرقام السد بأضخم المشاريع الهندسية
سد الممرات الثلاثة ده بدون جدال هو أضخم سد فى العالم. وبيبلغ طوله 2335 متر كاملين. أما أقصى ارتفاع له فبيبلغ 185 متر. وبصفة عامة سد الممرات الثلاثة ضرب كل الأرقام القياسية، سواء فى حجمه أو كمية الأمتار المكعبة المخزنة من الميه اللى بيحجزها، أو فى حجم الطاقة الكهربائية اللى بينتجها، أو بقى من حيث عدد العمال والموظفين اللى اشتغلوا فيه، أو حتى من حيث عدد المواطنين اللى تم تهجيرهم لإكمال البناء.
وخلينا ناخد كم رقم للسد ونقارنهم بأرقام بعض المشاريع الهندسية الكبيرة. فعلى سبيل المثال السد ده قادر على إنتاج 22500 ميجا وات من الطاقة الكهربائية (اتنين وعشرين ألف و خمسمية). والكمية دى من الطاقة كافية جدا لاحتياجات دولة مهمة زى المملكة المتحدة. لكن عشان تقدر تتخيل الرقم ده بصورة أفضل، خلينى أقولك ان الطاقة القصوى لسد ضخم زى السد العالى في مصر مش بتتجاوز إنتاج الـ 2100 ميجا وات فقط لا غير (ألفين و مية). يعنى سد الممرات التلاتة ده بينتج أكتر من عشر أضعاف إنتاجية السد العالى. وبالمناسبة السد العالي بيساهم بنسبة 7.2% من إجمالي استهلاك مصر من الطاقة الكهربائية. يعنى لو حطينا سد الممرات التلاتة مكان السد العالى، هيوفر أكتر من 70 % من احتياجات مصر من الطاقة.
لكن طبعاً عشان مساحة الصين العملاقة اللى بتقارب عشر أضعاف مساحة مصر، فسد الممرات التلاتة لما تم التفكير فى بناؤه، كان من المأمول منه توفير ما يعادل 10 % من احتياجات الصين من الطاقة الكهربية. لكن على ضخامة السد فحتى النسبة دى ما قدرش يحققها، والسبب فى كده كان التسارع الضخم فى عجلة التنمية فى الصين والاحتياج المتزايد للطاقة. وكانت النتيجة إن سد الممرات التلاتة اكتفى بالمساهمة بما يعادل الـ 1.7 % بس من الاحتياجات.
لكن برضه نقدر نقول إن إنتاج الطاقة الكهربية ما كانش هو الهدف الأساسى من بناء السد. و فى كل الأحوال ما كانش فى إمكان الهندسة البشرية انها تبنى سد أكبر من كده.
فلو جيت تشوف مثلاً عدد العمال والموظفين اللى اشتغلوا فى سد الممرات التلاتة، هنلاقيهم بدأوا بـ 26 ألف من العمال والفنيين والمهندسين، ووصلوا فى المراحل النهائية لحوالى 40 ألف. ولو جيت قارنت الأعداد دى بأعداد الأطقم اللى اشتغلت فى بناء برج خليفة بدبى، واللى زى ما هو معروف المبنى الأعلى ارتفاع فى العالم، هنلاقى إن كل اللى اشتغلوا فى بناء برج خليفة مش بتتجاوز أعدادهم الـ 12 ألف عامل ومهندس. يعنى الأعداد ما وصلتش حتى لنسبة 1 على تلاتة من أعداد اللى اشتغلوا فى السد.
لكن لما تعرف مثلاً إن وزن الخرسانة اللى تم استخدامها فى السد وصلت لحوالى 28 مليون متر مكعب، ووصلت كمية حديد التسليح لـنص مليون طن من الفولاذ. وبعدين لما تقارن الأرقام دى بأرقام برج خليفة فى استخدام الخرسانة وحديد التسليح، هتلاقى ان عدد الأربعين ألف ده كان زى ما بيقولوا أقل واجب ممكن يحتاجوه. فبرج خليفه البناء الأعلى فى العالم احتاج لـ 330 ألف متر مكعب من الخرسانة، يعنى النسبة بينه وبين سد الممرات التلاته 1 إلى 85. أو بمعنى أوضح كمية الخرسانة اللى تم استخدامها فى سد الممرات التلاتة تقدر انها تبنى 85 منشأة عملاقة زى برج خليفة. كمان بالنسبة لحديد التسليح، فبرج خليفة احتاج لحوالى 39 ألف طن، يعنى برضه النسبة مش قليلة لأنها بتوصل لـ 1 إلى 13.
وطبعاً كمية خامات زى دى تخليك متوقع التكلفة من غير حتى مبالغ التعويضات. فالسد ده اتكلف خامات بس حوالى 35 مليار دولار أمريكى. لكن مع إضافة مبالغ التعويضات و الإنشاءات اللى تم تخصيصها للناس اللى اتهجروا من أراضيهم، واللى تراوحت أعدادهم ما بين 1.3 مليون إلى 1.9 مليون إنسان، وصلت التكلفة الإجمالية للمشروع لحوالى 200 مليار دولار أمريكى.
لكن فى النهاية زى ما بيقولوا ان الغالى تمنه فيه. فالسد من تاريخ إنشاؤه ولحد النهاردة فى 2025 قدم الحماية المتكاملة وقضى على كل المشاكل اللى كانت بتحصل. ونقدر نقول ان السد ده قدر فعلاً انه يروّض النهر العملاق.
⛸️ لحظة الجمود وعزم القصور الذاتي (Moment of Inertia)
لو خدت بالك من الأرقام القياسية اللى حققها السد خصوصاً فى الأوزان، فيبقى دلوقتى جه دور الفيزيا.. بس برضه خلينا نمهد للقاعدة الفيزيائية بحاجة بنشوفها فى حياتنا.
هل سبق وشفت الرياضيين اللى بيمارسوا رياضة التزلج على الجليد الصناعى؟ لو شفت الرياضة دى يبقى أكيد لاحظت ان المتزلج أثناء حركته بيقف، وبعدين بيفرد دراعاته للجنب ويدور حوالين نفسه، وبعدين فجأة بيضم دراعاته و يكوم جسمه على بعضه، وساعتها بتلاحظ إن الحركة الدائرية بتاعته بقت أسرع جداً.
ولو حاولنا نعبر عن الكلام ده بطريقة تانية ممكن نقول: ان المتزلج لما بيكبر جسمه وينشر كتلته على مساحة أكبر بتبقى حركته بطيئة. ولما بيصغر المساحة اللى بتنتشر فيها كتلة جسمه بيبقى دورانه سريع.
وعلى فكرة برضه نفس التقنية دى اللى بتسرع أو تبطأ الدوران بيستخدمها رياضيين تانيين كتير زى بتوع رياضة الغطس والجمباز، أو حتى اللى بينطوا بالبراشوت بيستخدموها لتسريع أو تبطيئ السقوط.
و لو لخصنا القصة دى مرة تانية فهنقول كالآتى:
إيدين مقفولة يعنى الكتلة مصغرين المساحة اللى بتنتشر فيها ومقربينها من محور الدوران. النتيجة اللى بتترتب على كده ان الجسم بيلف أسرع.
أما الإيدين المفتوحه ونشر كتلة الجسم على مساحة أكبر وبعيدة عن محور الدوران، يبقى اللفة أبطأ.
خلى بالك إن المقصود بـمحور الدوران هو الخط الوهمي أو الحقيقي اللى بيلف حواليه الجسم. فمثلاً فى حالة بتاع رياضة التزلج، محور الدوران بتاعه هو خط وهمى واصل من قمة الراس وبين العينين ونازل فى نص الجسم بالظبط وصولاً لسرة البطن الى ما بين الأرجل. فلما يكون محور دوران جسمك فى النص بالظبط وإنت بترفع إيديك للاجناب، يبقى أنت بتبعد إيديك عن المحور. والبعد ده فيزيائياً بيخلى اللفة أبطأ. وطبعاً العكس صحيح. كل ما تقرب كتلة جسمك من المحور، اللفة بتبقى أسرع.
والحكاية دى بقى عبارة عن قاعدة فيزيائية بتسمى عزم القصور الذاتى أو الـ Moment of inertia. والقاعدة دى هى اللى خلقت المشاكل لما سد الممرات التلاتة العملاق اتبنى!
🌍 عزم القصور الذاتي لسد الممرات الثلاثة وحركة الأرض
لو كنت بتتساءل عن إزاى نربط بين القاعدة الفيزيائية دى وسد الممرات التلاتة، فتعالى الأول نراجع شوية جغرافيا:
أولاً السد ده موجود في الصين على خط عرض حوالي 30° شمال خط الاستواء.
ثانياً محور دوران الأرض هو خط وهمي بيبدأ من القطب الشمالي لحد ما يوصل للقطب الجنوبي. وأي حاجة قريبة من المحور ده بتكون مسافة دورانها صغيرة. وأي حاجة بعيدة عنه أو بمعنى تانى قريبة من خط الاستواء بتبقى مسافة دورانها أكبر.
ثالثاً بقى سد الممرات الثلاثة بحجمه القياسى ده، حجز وراه كمية ضخمة من المية، وحجزها فى موقع بعيد عن محور دوران الأرض. لأن قبل السد ما يتبنى، المية دي كانت بتتوزع على مساحات مختلفة، يعنى كانت ماشية وبعضها قريب من المحور.
بعد السد: كميات ضخمة اتجمعت في بحيرة صناعية كبيرة على مسافة أبعد عن المحور. والمية المتخزنة دى يعنى كتلـة كبيرة بعيدة نسبيًا عن محور الأرض. فيبقى النتيجة النهائية إن الأرض لازم دورانها يتبطأ شوية.
📉 حجم التأثير (46 ألف سنة لثانية واحدة)
يمكن اللى مذاكر فيزيا كويس يقولى يا عمدة انت بتبالغ. تأثير إيه اللى يعمله 100 سد حتى أد سد الممرات التلاتة بالمقارنة مع وزن الأرض!
والحقيقة إن صاحبنا ده معاه حق. بس الحقيقة برضه مش أنا اللى ببالغ، ده بالعكس أنا جاى أفسر أو أوضح الكلام الموجود فى كل وسائل الإعلام. أنت بنفسك اكتب فى جوجل مثلاً “سد الممرات التلاتة اللى خلى يوم الأرض أطول” وشوف بنفسك حجم الأخبار اللى هتظهرلك.
والحقيقة رغم إن الأخبار دى صحيحة فعلاً وفسرناها فيزيائياً، إلا إنها فعلاً مبالغة مضللة لان حجم التأثير لا يذكر تقريباً. فالبطئ اللى تسبب فيه سد الممرات التلاتة لدوران الأرض أدى لـزيادة طول اليوم بأجزاء لا تذكر من الثانية.
ولو عايز تعرف كام بالظبط، فهقولك إننا هنبقى محتاجين الانتظار لـ 46 ألف سنة عشان اليوم الأرضى يبقى أطول بمدة ثانية واحدة.
ده كمان الحكاية مش كده وبس. ده الصحيح إن أى مشروع ضخم بيؤدى لتغيير توزيع الكتلة برضه بيؤدى لبطئ أو سرعة دوران الأرض. إنما هى الفكرة إن تأثير سد الممرات الثلاثة كان هو الأضخم. فالسد هو صاحب الرقم القياسى فى تغييرات توزيع الكتلة اللي عملها البشر على مر التاريخ. وبالفعل هو أوضح الأمثلة اللى أمكن حساب تأثيرها نسبياً. فموضوع ثانية واحدة زيادة بعد 46 ألف سنة ده من وجهة نظر الفيزيائيين هو رقم لا يستهان بيه.
يا ترى فى حد من الأصدقاء يقدر يقولنا فى التعليقات على مثال تانى لواحد من الأنشطة البشرية اللى أثّرت على سرعة دوران الأرض ولو بشكل ضئيل؟







